التسول الإحتيالي تطور الأساليب وإستغلال المناسبات والظروف

بقلم د : خالد السلامي
في عصرنا الحالي تتطور ظاهرة التسول لتصبح أكثر تعقيدًا ودقةً، حيث لا يقتصر الأمر على الطرق التقليدية لجمع التبرعات فحسب، بل بات إستخدام أساليب متعددة تعتمد على التكنولوجيا والتواصل الإجتماعي، وتستغل مختلف المناسبات سواء كانت دينية أو إجتماعية أو حتى ظروفًا إقتصادية معينة لتحقيق أرباح غير مشروعة.
في هذا المقال سنتناول موضوع التسول من عِدة زوايا، مع تسليط الضوء على الطرق الجديدة التي يعتمدها المحتالون لإستغلال الظروف والأحداث الخاصة، مع مناقشة خاصة للمناسبات الدينية مثل: شهر رمضان المبارك الذي نقعه حاليًا، إضافة إلى غيرها من المناسبات التي تثير مشاعر التعاطف لدى الناس.
أولًا : تطور التسول وتحول أساليبة:
منذ القدم كان التسول يعتمد على مشهد تقليدي يتمثل في شخص يجلس على جانب الطريق يرفع يده طالبًا المساعدة من المارة. ومع تطور المجتمع وتقدم التكنولوجيا، أدرك المحتالون أن إستغلال الوسائل الحديثة يمكن أن يؤدي إلى تحقيق نتائج أكبر وأسرع.
أصبح التسول عبر الإنترنت واحدًا من أبرز التجليات الحديثة، حيث يتم إنشاء حسابات وهمية على منصات التواصل الإجتماعي، تُظهر قصصًا درامية وصورًا مؤثرة تُظهر معاناة شخصية حقيقية، مما يجعل المتابعين يتأثرون ويدفعهم ذلك للتبرع دون التأكد من صحة القصة.
علاوة على ذلك، تُستغل بعض المنصات الرقمية لتصميم حملات تبرعات زائفة تُستهدف جمهورًا واسعًا، تُستخدم في هذه الحملات صور ومقاطع فيديو معدلة بشكل دقيق لتبدو القصة أكثر واقعية وإلحاحًا.
وفي بعض الحالات، يتم تزوير شهادات عن معاناة أشخاص من فئات معينة، في محاولة لإستغلال عواطف الجمهور وجعله يشعر بالمسؤولية الإجتماعية تجاه تقديم المساعدة، بينما يكون الهدف الحقيقي هو تحقيق مكاسب مالية شخصية دون تقديم أي دعم حقيقي لمن هم في حاجة.
ثانيًا: إستغلال الظروف والمناسبات:
لا يقتصر الإحتيال في التسول على إستخدام التقنيات الرقمية فحسب، بل يمتد إلى إستغلال مختلف الظروف والمناسبات التي تولد حالة من التعاطف والرحمة بين أفراد المجتمع. من بين هذه المناسبات يأتي شهر رمضان المبارك، الذي يُعتبر من أهم الشهور الدينية التي يُكثر فيها المسلمون من العطاء والتصدق.
أدرك المحتالون أن هذا الشهر يمثل فرصة ذهبية لإستمالة قلوب الناس، فتنشر قصص مختلقة عن معاناة محتاجة في هذا الشهر، سواء كانت قصص عن أيتام أو مرضى أو أسر تعاني من الفقر المدقع، لتكون ذريعة لجمع التبرعات دون أي غرض إنساني حقيقي.
خلال شهر رمضان، حيث ترتفع نسبة التبرعات والزكاة والصدقات، يتم إستغلال هذه الحملة العاطفية لصالح بعض الأفراد أو الجماعات التي تسعى لتحقيق الربح الشخصي، يستخدم البعض تطبيقات الهواتف الذكية والمنصات الإلكترونية لنشر قصص توهم الجمهور بأنهم يحتاجون إلى مساعدة عاجلة، سواء لشراء الطعام أو توفير الأدوية أو حتى لتغطية تكاليف علاج أمراض خطيرة.
يتم الترويج لهذه القصص عبر شبكات التواصل الإجتماعي عبر مقاطع فيديو قصيرة ومنشورات تحتوي على صور مؤثرة، مما يجعل المتبرعين يقدمون مبالغ مالية كبيرة دون التأكد من مصداقية هذه المطالب.
وبالإضافة إلى شهر رمضان، تستغل المناسبات الدينية الأخرى مثل: عيد الفطر، وعيد الأضحى، في خلق جو من الإحتفال والتضامن الإجتماعي، حيث يُعرض فيها المحتالون قصصًا مُلفقة عن معاناة أشخاص في حاجة ماسة للمساعدة. كذلك، تستغل الأعياد الوطنية والمناسبات الإجتماعية والإحتفالات المحلية لإقناع الناس بأن التبرعات ستذهب لمن يستحقها، في حين أن الأموال قد تُختلس لأغراض شخصية أو لتحويلها إلى نشاطات غير مشروعة.
ثالثًا: الطرق الجديدة في التسول عبر التكنولوجيا:
يشهد عالمنا اليوم تطورًا هائلًا في مجال التكنولوجيا والاتصالات، ما جعل من الممكن استخدام هذه التطورات في خدمة أعمال التسول الإحتيالية، فبفضل الهواتف الذكية وإنتشار الإنترنت، يمكن للمحتالين الوصول إلى جمهور واسع دون الحاجة إلى الظهور الفعلي على الشوارع. تُستخدم التطبيقات والبرامج الخاصة بتعديل الصور والفيديوهات لتقديم قصص تبدو في ظاهرها حقيقية ومؤثرة.
يعمل بعض المحتالين على إنشاء صفحات خاصة على وسائل التواصل الإجتماعي تحتوي على شهادات ومقالات توثق حالات معاناة وهمية، وفي نفس الوقت تُظهر إحصائيات زائفة عن إنتشار الفقر أو المرض في مناطق معينة.
كما يُستخدم البريد الإلكتروني والرسائل النصية في حملات التبرعات الإحتيالية التي تُرسل إلى أعداد كبيرة من الناس، تحمل رسائل مُلفقة تُبرز الحاجة المُلحة للمساعدة في ظل ظروف صعبة. هذه الحملات غالبًا ما تستغل قصصًا مؤثرة تصوّر الكوارث الطبيعية أو الحوادث الطارئة التي حدثت في مناطق معينة، وتدعو الجمهور للتبرع بسرعة قبل فوات الأوان.
رابعًا: الآثار السلبية على المجتمع:
لا يقتصر تأثير التسول الإحتيالي على الجانب المالي فحسب، بل يمتد إلى تأثيرات إجتماعية ونفسية واسعة. فمع إنتشار هذه الأساليب الإحتيالية، يبدأ الناس في فقدان الثقة تجاه حملات التبرعات والقصص التي تُعرض عليهم، ينتاب المتبرعين شعور بالشك وعدم اليقين حيال مصير أموالهم، مما يؤدي إلى تراجع الدعم الحقيقي لأولئك الذين يعيشون في ظروف حقيقية تستدعي المساعدة. بهذا الشكل، يتعرض الفقراء والمحتاجون الذين يعيشون بصدق ظروف صعبة لخطر الإقصاء عن المساعدات الإجتماعية نتيجة التشكيك في مصداقية كل قصة تُروى.
كما أن هذه الظاهرة تؤدي إلى تشوية صورة العمل الخيري والتبرعات، حيث تصبح عملية التبرع محفوفة بالمخاطر والشكوك.
قد يؤدي ذلك إلى تأثير سلبي على الأعمال الخيرية الحقيقية التي تُقدمها المؤسسات والجمعيات الخيرية الموثوقة، إذ يجد المتبرعون أنفسهم في حيرة من أمر كيفية التمييز بين القصص الحقيقية والمزيفة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تراجع المساهمات المالية التي تُمنح للمشاريع الإجتماعية والتنموية، مما يترك فئة كبيرة من المحتاجين بدون دعم كافٍ في مواجهة الظروف الإقتصادية والإجتماعية الصعبة.
خامسًا: تأثير الظروف الإقتصادية والإجتماعية :
تلعب الظروف الإقتصادية والإجتماعية دورًا محوريًا في إنتشار ظاهرة التسول الإحتيالي. ففي أوقات الأزمات الإقتصادية أو بعد حدوث كوارث طبيعية، ينتشر شعور بالخوف والقلق بين أفراد المجتمع، ما يجعلهم أكثر إستعدادًا للمساهمة في حملات التبرعات. يستغل المحتالون هذه الأوضاع الصعبة ليزرعوا بذور الشفقة والخوف، مدعين أن التبرعات ستساعد على تخفيف معاناة ضحايا الكوارث أو الأزمة الإقتصادية .
في مثل هذه الظروف، يتم تسليط الضوء على مشاهد مؤثرة توثق الألم والمعاناة، سواء كانت صورًا أو مقاطع فيديو تم تصويرها بطريقة تُبرز الدمار والخراب. تستغل هذه المشاهد الحالة النفسية الهشة للمجتمع، وتدعو المتبرعين للتبرع بسخاء دون التحقق من صحة المطالب أو مصداقية الجهات الداعية للمساعدة. مما يؤدي إلى إختلاس أموال التبرعات التي كانت من المفترض أن تصل إلى ذوي الحاجة الفعلية، وتحويلها إلى جيوب بعض المحتالين الذين يستخدمون هذه الأموال لأغراض شخصية بحتة.
سادسًا: سبل مواجهة التسول الإحتيالي :
إن مواجهة ظاهرة التسول الإحتيالي تتطلب تضافر جهود عدة جهات، بدءًا من الحكومات والسلطات المحلية مرورًا بالجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني، وصولًا إلى الأفراد أنفسهم. من أهم الإجراءات التي يجب اتخاذها هي رفع مستوى الوعي بين الناس حول طرق الإحتيال الجديدة، وتقديم نصائح عملية لكيفية التمييز بين الحملات الحقيقية والإحتيالية.
يجب توعية المتبرعين بضرورة التحقق من مصداقية القصص قبل التبرع، والتأكد من أن الجهة التي تطلب التبرعات لديها سجل حافل في تقديم المساعدة الحقيقية.
كما يلزم تطوير آليات رقابية صارمة تضمن عدم إستغلال المناسبات الخاصة لتحقيق أرباح غير مشروعة. يمكن للسلطات المحلية بالتعاون مع الجهات المختصة في مجال الأمن السيبراني تتبع الأنشطة الإحتيالية على الإنترنت، ومحاسبة من يتورط في هذه الأعمال. بالإضافة إلى ذلك، يجب تفعيل القوانين واللوائح التي تجرم الإستغلال الإحتيالي للمناسبات والأحداث الخاصة، وتوفير حماية قانونية للمتبرعين والمحتاجين على حد سواء.
كما يلعب الإعلام دورًا هامًا في تسليط الضوء على هذه الظاهرة وتحذير الجمهور من مخاطر التبرع دون التأكد من صحة المطالب. يمكن للصحافة والبرامج التلفزيونية والإذاعية تبني حملات توعوية تسلط الضوء على أساليب الإحتيال، وتقديم قصص حقيقية عن الأشخاص الذين تضرروا من هذه الأعمال. يعمل الإعلام كجهاز رقابي يساعد في كشف المستور وتحقيق الشفافية في عمل الجهات الداعمة للمحتاجين.
سابعًا: دور المجتمع في مكافحة الإحتيال:
يتحمل أفراد المجتمع دورًا كبيرًا في مكافحة ظاهرة التسول الإحتيالي، إذ يمكن لكل شخص أن يسهم في حماية المساعدات الخيرية من الإستغلال عبر إتباع بعض الإرشادات البسيطة. ينبغي على المتبرعين أن يتحلوا بالحذر واليقظة عند مواجهة حملات التبرعات الإلكترونية، وأن يبحثوا عن مؤسسات معروفة وموثوقة قبل تقديم أي تبرعات. كما يمكن للمجتمع دعم المبادرات المحلية التي تهدف إلى تقديم المساعدة الحقيقية للمحتاجين، مثل إنشاء صناديق دعم شفافة تحت إشراف جهات رسمية.
على المستوى الشخصي، يجب أن يتحلى كل فرد منّا بمسؤولية إجتماعية تدفعه للبحث والتحقق من القصص التي تُعرض عليه. لا بد من إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي بحكمة، وعدم إعادة نشر المعلومات دون التأكد من مصدرها، مما يساهم في الحد من إنتشار الأخبار المزيفة والحملات الإحتيالية. كما يمكن تنظيم ورش عمل وحملات توعوية في المدارس والجامعات لتعريف الشباب بأساليب الإحتيال الحديثة وكيفية الحماية منها.
ثامنًا: التحديات المستقبلية والحلول الممكنة:
مع إستمرار تطور التكنولوجيا وظهور أساليب جديدة في الإحتيال، تواجه المجتمعات تحديات كبيرة في مجال مكافحة التسول الإحتيالي. فقد يصبح من الصعب التمييز بين الحملات الحقيقية والمزيفة مع مرور الزمن، خاصة مع التطورات المستقبلية في تقنيات الذكاء الإصطناعي والتعديل الرقمي. لذلك، ينبغي العمل على تطوير تقنيات متقدمة للكشف عن المحتوى المزيف و الإحتيالي، والإستثمار في البحث العلمي لتطوير أنظمة تحقق آلية تضمن مصداقية المعلومات قبل السماح بنشرها.
ومن الحلول الممكنة أيضًا هو تعزيز التعاون بين الدول والمنظمات الدولية لتبادل الخبرات والمعلومات حول أساليب الإحتيال الجديدة، مما يساعد في بناء جدار دفاع عالمي ضد هذه الظاهرة. إن إنشاء منصات مشتركة لتوثيق الحالات الإحتيالية ومشاركة البيانات بين الدول يمكن أن يكون خطوة فعالة نحو الحد من إنتشار هذه الممارسات غير المشروعة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للدول العمل على تحديث قوانينها لتشمل الجرائم الإلكترونية والإحتيال عبر الإنترنت بشكل أكثر صرامة، مما يخلق رادعًا قويًا لمن يحاول إستغلال المناسبات والظروف لصالحه.
في الختام، تظهر ظاهرة التسول الإحتيالي كأحد التحديات الإجتماعية والإقتصادية التي تواجه المجتمعات المعاصرة، خاصة مع ظهور أساليب جديدة تعتمد على التكنولوجيا وإستغلال الظروف الخاصة والمناسبات الحساسة مثل شهر رمضان المبارك. تتجلى خطورة هذه الظاهرة في تأثيرها السلبي على الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع وعلى سير العمل الخيري الذي يهدف لمساعدة المحتاجين الحقيقيين. من هنا تنبع أهمية تكاتف جهود الجهات الحكومية والمؤسسات الخيرية والإعلام، إضافة إلى دور الفرد الذي ينبغي أن يتحلى بالوعي والحذر في مواجهة الحملات الإحتيالية .
يظل بناء مجتمع متماسك قائم على الثقة والشفافية هو السبيل الأمثل لمواجهة هذه الظاهرة، وذلك من خلال تفعيل آليات الرقابة والتحقق وتحديث القوانين لمواكبة التطورات التكنولوجية. يجب أن يكون لكل فرد دور في حماية الموارد المالية والخيرية من الإستغلال، وأن يسهم في نشر الوعي حول أساليب الاحتيال الجديدة التي يتم توظيفها في إستغلال المناسبات الحساسة سواء الدينية أو الإجتماعية أو الإقتصادية.
إن الطريق أمامنا طويل ويتطلب جهودًا مشتركة ومستمرة لإرساء قيم العطاء الحقيقي والمساعدة الصادقة، بعيدًا عن المكاسب الشخصية والمصالح الضيقة. يبقى التحدي الأكبر هو كيفية بناء نظام يضمن توجيه الموارد إلى مستحقيها، مع الحد من فرص الإستغلال و الإحتيال الذي يعكس صورة سلبية عن العمل الخيري ويضعف ثقة المجتمع في المؤسسات الداعمة. لذلك، يجب أن نكون يقظين وأن نعمل معاً لوضع حد لهذه الظاهرة من خلال تعزيز الشفافية والمساءلة في كل مستويات العمل الخيري والإجتماعي.
إن شهر رمضان وغيره من المناسبات يحملان في طياتهما رسالة إنسانية عظيمة، يجب ألا تُستغل بطرق زائفة. بدلًا من ذلك، ينبغي توجيه الجهود لتقديم المساعدة الحقيقية للمحتاجين بطريقة شفافة ومنظمة تضمن وصول الدعم لمن يستحقه بالفعل