“عيد الأضحى” يختزل في جوهره معاني التضحية والتراحم والتكافل

بقلم د : خالد السلامي
العيد بلا أحضان – هل غيّر السفر ملامح فرحتنا؟
مع اقتراب موعد عيد الأضحى، اعتادت مشاهد المطارات في دولة الإمارات أن تعجّ بالعائلات الحاملة حقائب السفر، تغادر قبل العيد بيوم أو يومين لقضاء الإجازة مع أسرتها الصغيرة خارج البلاد. ففي السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة اجتماعية جديدة في المجتمع الإماراتي تتمثل في سفر العديد من الأسر إلى الخارج لقضاء عطلة عيد الأضحى مع الأسرة الصغيرة بعيدًا عن الوطن. فبعد أن كان عيد الأضحى يُعتبر مناسبة للتجمعات العائلية الموسعة وصلة الرحم، أصبح البعض يستغل إجازة العيد كفرصة للسفر والترفيه. وتحديدًا قبل موعد العيد بيوم أو يومين، تشهد المطارات حركة نشطة تعكس تزايد أعداد العائلات المغادرة لقضاء العيد في وجهات خارجية. ويثير هذا التحول اهتمام المراقبين لما له من تأثيرات على تقاليد العيد وروابط المجتمع.
هذه الظاهرة مرتبطة بتغير أنماط الحياة وتطلعات الأسر الشابة في الإمارات. فالكثير من العائلات باتت توازن بين الحفاظ على طقوس العيد التقليدية من جهة، ورغبتها في الاستفادة من عطلة العيد للسفر والاستجمام من جهة أخرى. ومع ازدياد الرفاهية وانفتاح المجتمع على العالم، أصبح السفر خلال العيد أمرًا شائعًا وخيارًا مفضلًا لدى فئات معينة. في الأقسام التالية نستعرض حجم انتشار هذه الظاهرة في عيد الأضحى بالأرقام، ثم نتناول دوافعها المختلفة، وتأثيرها على الطقوس الأسرية والدينية، إضافة إلى الآراء المتباينة حولها والفئات الأكثر إقبالًا عليها، وأخيرًا بعض المقترحات للتوفيق بين متعة السفر وقيم العيد.
انتشار الظاهرة خلال عيد الأضحى بالأرقام
تشير الإحصاءات الرسمية ووسائل الإعلام المحلية إلى أن عطلة عيد الأضحى باتت واحدة من أكثر مواسم السفر ازدحامًا في دولة الإمارات. فعلى سبيل المثال، كشفت الإدارة العامة للإقامة وشؤون الأجانب في دبي أن إجمالي عدد المسافرين عبر المنافذ الجوية في الإمارة خلال إجازة عيد الأضحى لعام 2024 (خلال الفترة من 15 إلى 18 يونيو 2024) بلغ أكثر من 562 ألف مسافر. وهذا الرقم الضخم خلال بضعة أيام يعكس بوضوح حجم الإقبال على السفر في هذا الموسم. كما سجل مطار أبوظبي الدولي في أحد الأعوام مرور حوالي 414 ألف مسافر خلال فترة عيد الأضحى ضمن إحصائية شملت شهري يوليو وأغسطس، ما يؤكد أن الظاهرة تشمل مختلف إمارات الدولة ولا تقتصر على دبي وحدها.
ولا يقتصر الأمر على الأرقام المسجلة، بل إن التوقعات والاستعدادات المسبقة تشير أيضًا إلى طفرة في حركة السفر خلال عيد الأضحى. فقد توقع مطار دبي الدولي استقبال أكثر من 3.7 مليون مسافر خلال فترة إجازة عيد الأضحى والمدارس في يونيو 2024، بمعدل حركة يومي يصل إلى نحو 264 ألف مسافر، وتوقع أن يصل العدد في أكثر الأيام ازدحامًا (22 يونيو) إلى قرابة 287 ألف مسافر في يوم واحد. هذه المؤشرات دفعت المطار وشركات الطيران إلى إطلاق حملات توعية للمسافرين لاتخاذ إجراءات مبكرة لتفادي الزحام وضمان سلاسة التنقل.
جدير بالذكر أن وزارة الخارجية والتعاون الدولي في الإمارات أيضًا رصدت جانبًا من هذه الظاهرة من خلال خدمة المواطنين في الخارج أثناء العيد. فقد أعلنت الوزارة أنها تلقت 3600 مكالمة وتعاملت مع 91 بلاغًا طارئًا خلال إجازة عيد الأضحى 2023 عبر نظام الطوارئ المخصص لمواطني الدولة بالخارج. وتعكس هذه الأرقام عدد المواطنين الإماراتيين الذين كانوا مسافرين خارج البلاد أثناء عطلة العيد واحتاجوا إلى الدعم أو المساعدة، مما يدل على الانتشار الواسع لسفر الأسر خلال العيد.
دوافع اجتماعية ونفسية واقتصادية للسفر في العيد
تتنوع الأسباب التي تدفع العائلات الإماراتية إلى السفر قبل عيد الأضحى لقضاء الإجازة في الخارج، وتتداخل فيها العوامل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية بشكل معقد:
الرغبة في كسر الروتين وصنع ذكريات عائلية: يعتبر كثيرون أن إجازة العيد فرصة مثالية لكسر روتين الحياة اليومية وقضاء وقت نوعي مع أفراد الأسرة الصغيرة. السفر يتيح للأهل والأبناء خوض تجارب جديدة معًا وصنع ذكريات مميزة خلال مناسبة سعيدة. هذا الجانب النفسي – أي التطلع لقضاء وقت ممتع ومختلف – يعد دافعًا قويًا، خاصة للأسر الشابة التي ترغب في إدخال البهجة على أطفالها عبر السفر في عطلة العيد.
الاستفادة من طول الإجازة وتزامنها مع العطلة المدرسية: غالبًا ما تمتد إجازة عيد الأضحى لعدة أيام (قد تصل إلى أربعة أيام أو أكثر عند ربطها بعطلة نهاية الأسبوع)، وفي بعض السنوات تتزامن مع بداية العطلة الصيفية للمدارس. هذا التوقيت يغري العديد من الأسر باستغلال الفرصة للقيام برحلة قصيرة دون الحاجة لأخذ إجازات عمل طويلة. وتشير بيانات شركات السفر إلى أن معظم المسافرين في فترة العيد يفضّلون الرحلات القصيرة نسبيًا التي يمكن إنجازها خلال أقل من أسبوع، وذلك للتوفيق بين العطلة الرسمية والتزامات العمل أو الدراسة.
تجنب حرارة الصيف والبحث عن مناخ معتدل: يأتي عيد الأضحى أحيانًا في ذروة فصل الصيف بمنطقة الخليج، حيث ترتفع درجات الحرارة والرطوبة. لذا تلجأ الكثير من العائلات للسفر إلى وجهات تتمتع بطقس ألطف هربًا من حرّ الصيف. وقد تصدّرت الدول الأوروبية الباردة نسبيًا قائمة الوجهات المفضلة للإماراتيين في عطلة عيد الأضحى 2025، حيث ارتفعت الاستفسارات عن إجازات العيد إلى أوروبا بنسبة 40% مقارنة بالعام السابق. دول مثل سويسرا وفرنسا وألمانيا وغيرها تجذب المسافرين سعيًا وراء أجواء معتدلة ومعالم ثقافية خلال العيد. فهذا الدافع المناخي يلعب دورًا ملحوظًا في قرار السفر لدى من تسمح ظروفهم.
القدرة المادية والعروض السياحية: من الجانب الاقتصادي، لا شك أن القدرة المالية للأسر الميسورة تشجعها على السفر في أي فرصة تتاح، ومنها عطلة العيد. تكاليف السفر خلال الموسم قد تكون مرتفعة، لكن كثيرًا من العائلات الإماراتية تستطيع تحمل هذه النفقات وترى فيها استثمارًا في إسعاد الأسرة. كما أن وكالات السفر وشركات السياحة تروّج باقات خاصة لعطلة عيد الأضحى، مما يغري البعض بالحجز المسبق. وقد شهدت شركات السياحة في الإمارات زيادة بنحو 30% في الإقبال على باقات عطلات العيد مقارنة بالعام السابق، مع رواج العروض المتكاملة (طيران وفندق) كخيار اقتصادي ومريح للتخطيط السريع. هذه العوامل الاقتصادية تجعل قرار السفر أكثر سهولة وجاذبية لمن يمتلكون الإمكانات.
ضغوط التجمعات العائلية الكبرى: لا يمكن إغفال جانب اجتماعي آخر، وهو أن بعض الأسر الصغيرة قد تشعر بضغط أو عبء في الزيارات العائلية الموسعة والتزامات الضيافة خلال العيد. فترتيبات استقبال الضيوف أو زيارة عدد كبير من الأقارب في أيام محدودة قد تكون مرهقة للبعض. لذا يجدون في السفر ملاذًا للاحتفال بالعيد بشكل أكثر خصوصية وهدوء، بعيدًا عن التزامات البروتوكول الاجتماعي. هذا الدافع قد لا يُصرّح به علنًا، لكنه دافع ضمني لدى من يفضّلون قضاء العيد مع أفراد الأسرة الصغيرة فقط وفي أجواء بعيدة عن مجاملات المجتمع.
مجمل هذه الدوافع يفسّر لماذا أصبحت شريحة متزايدة من الأسر الإماراتية تميل إلى حزم الحقائب والتوجه إلى المطار قبيل يوم العيد. وبالطبع يختلف الوزن النسبي لكل دافع من عائلة لأخرى؛ فهناك من يغلب لديهم عامل المتعة والاستكشاف، وآخرون يعتبرون الأمر ضرورة للاسترخاء بعد عام من العمل، وغيرهم قد يكون السفر بالنسبة لهم عادة سنوية بغض النظر عن توقيت العيد.
تأثير السفر على شعائر العيد وتقاليده
يحمل عيد الأضحى في الثقافة الإسلامية والعربية طقوسًا وشعائر دينية واجتماعية عريقة، أبرزها شعيرة الأضحية وصلة الرحم وتبادل الزيارات العائلية. ظهور عادة السفر في إجازة العيد أثّر بشكل ملموس على ممارسة بعض هذه الطقوس بالشكل التقليدي المعتاد، ومن أهم التأثيرات في هذا السياق:
الأضحية (الذبيحة): يعد نحر الأضحية وتوزيع لحمها على الفقراء والأقارب من أعظم شعائر عيد الأضحى. في السابق كانت معظم الأسر الإماراتية تحرص على شراء الأضحية وذبحها صباح العيد بحضور أفراد العائلة، بما في ذلك الأطفال لتعليمهم رمزية هذه الشعيرة. أما مع سفر الكثيرين خارج الدولة أثناء العيد، فقد أصبح أداء هذه الشعيرة يجري بطرق مختلفة: بعض الأسر تكلف من ينوب عنها لشراء الأضحية وذبحها في الإمارات أو توكيل جمعيات خيرية للقيام بالمهمة نيابةً عنها، بينما قد يؤجل آخرون الأضحية أو يتصدقون بثمنها. هذا يعني أن الحضور الفعلي للعائلة في مشهد الأضحية بات أقل تكرارًا، ما قد يفقد الجيل الناشئ معايشة هذه التجربة الروحانية المهمة. كما أن غياب رب الأسرة عن بيته في العيد قد يمنعه من القيام بذبح الأضحية بنفسه، إلا إذا سافر وهو مطمئن لترتيب الأمر عن بعد.
صلاة العيد والتكبيرات: صباح يوم العيد يجتمع المسلمون لأداء صلاة العيد في المساجد والمصليات ويتبادلون التهاني بعدها. بالنسبة للمسافرين إلى الخارج، فإن إمكانية أداء صلاة العيد تعتمد على الوجهة وطبيعتها؛ فإن كانت الوجهة إسلامية أو تحوي جالية مسلمة كبيرة فقد يتاح حضور صلاة العيد في مسجد أو مصلى هناك، أما إن كانت الوجهة غير إسلامية فقد يجد البعض صعوبة في العثور على مكان للصلاة الجماعية، وربما يكتفون بأداء الصلاة فرادى في الفندق. بالتالي تقل المشاركة في الأجواء الجماعية لتكبيرات العيد وتبادل التهاني العفوية مع أبناء الوطن أو الجالية، مقارنة بما لو كانوا في الإمارات حيث المساجد تغص بالمصلين صبيحة العيد. هذا جانب ديني واجتماعي قد يفوت على المسافر رغم حرص البعض على عدم ترك الصلاة حتى ولو في الغربة.
التزاور وصلة الرحم: تقليديًا يعد يوم العيد وأيامه التالية فرصة ذهبية لصلة الأرحام؛ إذ تقوم العائلات بزيارات مكثفة بين الأبناء وآبائهم وأجدادهم، والأقارب والجيران يتبادلون الزيارات والتهاني. مع سفر العائلة الصغيرة للخارج، تنقطع عمليًا هذه الزيارات المباشرة. فالمغتربون في العيد يكتفون بالاتصالات الهاتفية أو مكالمات الفيديو لمعايدة أهاليهم من بعيد، وهو أمر على أهميته لا يعوّض دفء اللقاء الشخصي. غياب الأسرة عن موطنها يعني أن الأجداد والعموم والخوال لن يروا الأبناء والأحفاد في العيد، مما يقلل من التواصل العائلي الحميم المعتاد في هذه المناسبة. حتى تقليد توزيع العيدية (النقود كهدايا للأطفال) ضمن نطاق العائلة الكبيرة ربما يتأثر، إذ يقتصر على أفراد الأسرة المسافرة فيما بينهم بدل أن يشمل أبناء العمومة والأقارب كما جرت العادة.
الأجواء والمظاهر الاحتفالية المحلية: تتميز الأعياد في الإمارات ببهجة خاصة تظهر في تجمع الأسر بلباسها التقليدي، وموائد العيد العامرة بالأطباق الإماراتية، ولقاءات الأصدقاء والجيران في مجالس العيد، ناهيك عن فوالة العيد والقهوة والتمر التي تُقدّم للمعايدين طوال اليوم. الأسر التي تسافر لقضاء العيد في الخارج قد تفتقد هذه الأجواء المحلية الأصيلة، خاصة إذا كانت في بلد لا يحتفل بالعيد. فمهما حاولت الأسرة خلق أجواء احتفالية في الفندق أو الشقة التي تقيم فيها – كتجهيز حلويات أو ارتداء ملابس جديدة – يبقى الشعور مختلفًا عن الوطن حيث المجتمع كله يحتفل. كما أن الفعاليات العامة التي تُنظّم محليًا في العيد (كالمهرجانات والعروض التراثية والألعاب النارية) لن يحضرها من فضّلوا قضاء العيد بعيدًا.
باختصار، السفر خلال عيد الأضحى يعني غالبًا استبدال نمط احتفال جماعي تشاركي بنمط احتفال خاص محدود بأفراد الأسرة الصغيرة وفي ثقافة مختلفة. وهذا الاستبدال له أثره على ممارسة الشعائر والحفاظ على العادات المرتبطة بالعيد، سواء الدينية منها أو الاجتماعية. ورغم حرص بعض الأسر المسافرة على تعويض ما فاتها – كأن تقوم بالتصدق بثمن الأضحية، أو تنظيم لقاء عائلي قبل السفر أو بعد العودة – إلا أن الواقع يشير إلى تراجع ملموس في حضور تلك الأسر ضمن مشهد العيد المحلي بكل ما يحمله من معاني التواصل والتكافل.
الآثار السلبية على التواصل الأسري وقيم العيد
يترتب على ظاهرة سفر العائلات قبل عيد الأضحى جملة من الآثار الاجتماعية السلبية المحتملة، التي تثير قلق المهتمين بتماسك النسيج الأسري والمحافظة على القيم التراثية للمجتمع الإماراتي. من أبرز هذه الآثار:
فتور صلة الرحم وضعف التواصل بين الأجيال: حين تغيب الأسر الشابة عن قضاء العيد مع عائلاتها الممتدة، يفقد كبار السن (كالجد والجدة) فرصة الاجتماع بأبنائهم وأحفادهم في أيام مباركة اعتادوا رؤيتهم فيها. مع تكرار الأمر سنويًا، قد يشعر الجيل الأكبر بالعزلة النسبية في العيد، وتفقد اللقاءات العائلية حرارتها. صلة الرحم التي هي من أعظم القربات في العيد تتأثر سلبًا؛ وقد عبّر البعض صراحة عن رفضهم لمبدأ السفر في العيد لأنه يحرمهم تعزيز صلة الرحم وأداء واجب الزيارة والتهنئة للأهل والجيران. إن استمرار هذا النهج ربما يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الأجيال، حيث يقل تعلّق الأطفال بعادات زيارة الأقارب والتعرف إلى أفراد عائلتهم الكبيرة، وينشأون على أن العيد مناسبة شخصية ضيقة النطاق بدل كونه رابطًا اجتماعيا جامعا.
تراجع الالتزام بالتقاليد والعادات الإماراتية: لكل مجتمع عادات جميلة يحرص عليها في الأعياد، وفي الإمارات هناك تقاليد راسخة كاجتماع أفراد الفريج (الحي) صبيحة العيد لتبادل التهاني، أو قيام كبار الأسرة بإعداد وليمة العيد التقليدية (كالمجبوس والبلاليط وغيرها) ودعوة الجميع إليها. غياب الكثير من الأسر للسفر يعني أن هذه المظاهر مهددة بالانحسار. القيم المرتبطة بالعيد مثل الكرم (استضافة الضيوف)، والتكافل (توزيع لحوم الأضاحي على المحتاجين والمعارف)، قد تضعف عمليًا مع قلة عدد من يمارسونها. حتى الاحتفال بالعيد كجماعة يتأثر: فبدل أن تتحول البيوت إلى محطات مفتوحة للاستقبال طوال أيام العيد، تصبح بعض الأحياء هادئة بشكل لافت لرحيل عائلاتها في الإجازة. هذا التغيّر ربما يجعل أجواء العيد العامّة أقل زخمًا مما كانت عليه، ويؤثر على إحساس الباقين بروح المناسبة.
فقدان الترابط المجتمعي في المناسبات الدينية: اعتاد المجتمع الإماراتي أن يكون العيد مناسبة لتعزيز الترابط المجتمعي عبر الزيارات واللقاءات الجماعية وصلاة العيد في الساحات. مع تنامي السفر في العيد، يقل التفاعل بين أفراد المجتمع في هذه المناسبة الجامعة. فقد تجد بعض الأسر التي بقيت محليًا نفسها دون جيران أو أصدقاء كثر حولها لمعايدتهم، لانشغال عدد كبير بالسفر. هذا قد يولد شيئًا من الحنين والافتقاد لأيام كان فيها الجميع يحتفل سويًا. وإذا اعتبرنا أن العيد فرحة جماعية كما هو المفترض، فإن تفرق الناس في وجهات شتى يعني بعثرة هذه الفرحة إلى فرحات فردية متناثرة. على المدى الطويل، قد تبهت الذاكرة الجمعية حول كيفية احتفال مجتمع الإمارات بالأعياد إن لم يتناقل الأبناء عن آبائهم تلك التجارب بسبب غيابهم المتكرر.
تعزيز النزعة الاستهلاكية والمظهرية: هناك من يرى أيضًا جانبًا سلبيًا آخر، يتمثل في أن السفر المتكرر في كل عيد قد يرسخ عند الأبناء نزعة مادية ومظهرية تجاه الأعياد. فبدلًا من تعلمهم معاني التضحية والتواضع وصلة الرحم في العيد، قد ينشأ في أذهانهم أن بهجة العيد لا تكتمل إلا برحلة فاخرة أو تسوّق وسياحة. هذا التحول في المفاهيم يثير مخاوف من تراجع البعد الروحي والتربوي للعيد، وتحوله إلى مجرد عطلة سياحية. ولا شك أن الإنفاق الكبير على السفر أثناء المواسم المباركة قد يُنظر إليه على أنه تفضيل للمتعة الشخصية على حساب أعمال الخير أو مشاركة المجتمع المحلي الاحتفال، مما يتعارض مع فلسفة العيد القائمة على الشكر والعطاء.
بطبيعة الحال، ليست كل أسرة مسافرة تقع بالضرورة في هذه السلبيات، فكثير من الأسر تحاول الموازنة كما سنرى لاحقًا. إنما تسليط الضوء على هذه الآثار مهم للتنبيه إلى ثمن اجتماعي وثقافي قد ندفعه إن أصبحت ظاهرة السفر في عيد الأضحى هي القاعدة السائدة وليست الاستثناء.
مواقف وآراء المجتمع تجاه الظاهرة
أثارت هذه الظاهرة نقاشات واسعة في المجتمع، وتباينت الآراء بين مؤيدين يرون الأمر حرية شخصية ومتعة مشروعة، ومعارضين يخشون تبعاتها على تماسك الأسرة والمجتمع. نعرض فيما يلي خلاصة بعض المواقف غير المنسوبة لأشخاص محددين ولكنها شائعة ومتداولة:
فريق المؤيدين (أنصار السفر): يرى هؤلاء أن السفر خلال إجازة عيد الأضحى حق طبيعي للأسرة الحديثة التي تبحث عن الترفيه والاستجمام بعد شهور من العمل والدراسة. برأيهم، لا تعارض بين الاستمتاع بإجازة العيد خارج البلاد والحفاظ على روحانية العيد؛ إذ يمكن للمسافر أن يؤدي الصلاة ويذكر الله وأن يتصدق ولو كان بعيدًا عن موطنه. ويؤكدون أن قضاء العيد مع الأسرة الصغيرة في أجواء سياحية جديدة يعزز الروابط بين الوالدين والأبناء ويخلق لحظات سعيدة تدوم ذكراها. بعضهم يشير إلى أن التقنية قلّصت المسافات؛ فبإمكانهم معايدة أهلهم عبر الاتصال المرئي وإرسال الهدايا من أي مكان. ويشددون على أن خيار السفر مسألة تفضيل شخصي لا ينبغي تحميله أكثر مما يحتمل، فهناك أسر ربما لا تربطها علاقات قوية بعائلاتها الكبيرة أو وزعت أفرادها بين بلدان متعددة، فتجد أن أفضل طريقة للاحتفال بالعيد هي مع من تعولهم وفي المكان الذي تختاره. كما يستشهد المؤيدون بأن العيد مناسبة للفرح والسفر أحد وسائل إدخال السرور للنفس، مستدلين بأن الكثير من المقيمين غير المواطنين أيضًا يستغلون العيد للسياحة، فلمَ يُلام المواطن إذا فعل ذلك؟ وبشكل عام، يتبنى هذا الفريق نظرة مرنة للعادات معتبرًا أن الأهم هو شعور الأسرة بالسعادة والراحة في العيد سواء أكانوا في بلدهم أم خارجه. بل ويذهب البعض للقول إن السفر مع أفراد العائلة المقربين لا يقل قيمة عن صلة الرحم، فهو شكل آخر للتقارب والتواصل وإن كان مختلفًا عن التقليد المعتاد. كذلك يلفت المؤيدون إلى جانب عملي وهو أن السفر أثناء العيد يخفف الازدحام على التجمعات المحلية ويوزع الكثافة، معتبرين أن المجتمع يتطور ولا بأس من تنويع طرق الاحتفال. ومن الأقوال المنتشرة في هذا الصدد: “الأهم أن نفرح بالعيد، أينما كنا” – أي أن البعد الجغرافي لا يجب أن يقيد احتفال الأسرة المصغرة بسعادتها الخاصة.
فريق المعارضين (أنصار البقاء وصون التقاليد): على الجانب الآخر، يعبّر كثيرون عن قلقهم من هذه الظاهرة ويرون فيها تهديدًا للقيم الأسرية والاجتماعية التي تميز عيد الأضحى. يجادل هؤلاء بأن العيد فرصة فريدة لاجتماع الشمل الأسري الكبير، وأن التفريط فيها بالسفر إلى وجهات بعيدة هو تفويت لمعانٍ عميقة لا تعوّض. يقولون إن الأعياد وجدت لتقريب الناس لا لتبعثرهم؛ فمهما كانت فوائد الرحلة السياحية مغرية، لن تصل قيمتها المعنوية إلى لحظة يصافح فيها المرء أبويه صباح العيد ويقبل رأسيهما، أو يجتمع على مائدة واحدة مع إخوته وأخواته. ويؤكدون أن السفر في وقت يمكن فيه أداء شعيرة دينية (مثل الأضحية) ومشاركة الفقراء والمحتاجين يعد نوعًا من تقديم اللهو على العبادة. لذا ينبّهون إلى أهمية التوازن وألا يتحول الاستثناء إلى عادة دائمة. كثير من المعارضين يعتبرون ظاهرة السفر في العيد انعكاسًا لسلبيات الحياة المعاصرة التي طغت فيها الفردية والمادية على حساب الجماعة والتراحم. ويتساءلون: إذا كنا حتى في العيد سننصرف كلٌ إلى وجهته الخاصة، فمتى سنلتقي كمجتمع؟ كما يشيرون إلى مخاطر تربوية بأن يكبر الأطفال ولديهم فهم مبتور للعيد – فهو عندهم رحلة ترفيه فقط – دون التعرف على قيم التضحية والصدقة وصلة الرحم من خلال الممارسة الفعلية. بعض الأصوات في هذا الفريق تدعو إلى تأجيل السفر إلى ما بعد أيام العيد على الأقل، بحيث يقوم الناس أولًا بواجباتهم الأسرية والدينية ثم يسافرون إن أرادوا بقية الإجازة. ويضربون أمثلة بمن اختاروا البقاء رغم الإغراءات، مثل من يقول: “أرفض فكرة السفر في إجازة العيد تمامًا، لأنها الفرصة الوحيدة لتعزيز صلة الرحم وغرس هذا الواجب في نفوس أبنائنا”. إجمالًا، ينطلق المعارضون من حرص على هوية المجتمع وتماسك الأسرة، ويرون أن التضحية ببضعة أيام إجازة دون سفر هي ثمن بسيط للحفاظ على روابطنا وعاداتنا الأصيلة.
بطبيعة الحال، هناك أصوات معتدلة تدعو إلى حلول وسط (سنذكرها في قسم المقترحات) وترى وجاهة في كلا الرأيين. لكن هذا العرض يُبيّن مدى الانقسام في النظرة إلى الظاهرة: بين من يركز على إيجابيات التجربة الفردية، ومن يهتم بتبعاتها الاجتماعية الطويلة الأمد. والحوار حول هذا الموضوع صحي ومطلوب للوصول إلى فهم أعمق لكيفية التوفيق بين التطور الاجتماعي والحفاظ على القيم.
الفئات الأكثر إقبالًا على السفر في العيد
عند الحديث عن ازدياد سفر العائلات الإماراتية قبل عيد الأضحى، لا بد من الإشارة إلى الفئات الاجتماعية التي تظهر فيها هذه الظاهرة بشكل أكبر. فمن خلال الملاحظات والبيانات المتاحة يمكن تمييز بعض السمات العامة للأسر الأكثر ميلًا للسفر في عطلة العيد:
الأسر الشابة وصغيرة الحجم: يبدو أن العائلات الإماراتية حديثة التكوين (الزوجان مع أطفال صغار) أكثر الفئات توجهًا لقضاء عيد الأضحى خارج الدولة. هذه الأسر الشابة عادةً ما تكون أكثر تحررًا من الالتزامات تجاه الأقارب مقارنة بالأسر الكبيرة الممتدة، وربما تكون أيضًا أكثر انفتاحًا على التجارب الجديدة والرغبة في السفر. كما أن الآباء والأمهات من الجيل الأصغر سنًا يميلون إلى إعادة تشكيل تقاليدهم الأسرية بطريقة تناسب نمط حياتهم؛ فإن لم يكن لدى أحد الزوجين والدان كبيران في السن مثلاً أو كانت العائلة الممتدة محدودة العدد، يصبح قرار السفر أسهل دون شعور قوي بالذنب أو الالتزام تجاه تجمع عائلي كبير. إضافة إلى ذلك، الأسر ذات الطفلين أو الثلاثة أسهل في التنقل من العائلات الكبيرة، ما يشجعهم لوجستيًا على حزم الأمتعة والانطلاق في كل عيد.
ذوو الدخل المرتفع والطبقة الميسورة: لا شك أن العامل الاقتصادي يلعب دورًا رئيسيًا. فالعائلات المقتدرة ماديًا والتي تنتمي للطبقة الوسطى العليا أو الغنية هي الأقدر على تحمل تكاليف السفر إلى الخارج بشكل منتظم في كل عيد. هذه الفئة ربما اعتادت أصلاً على السفر خلال الإجازات السنوية، وبالتالي لن يشكل عيد الأضحى استثناءً بل قد يكون جزءًا من خطة عطلاتهم السنوية. وتميل الوجهات التي يقصدونها إلى أن تكون بعيدة نسبيا أو فاخرة، فمثلًا سجلت وكالات السفر إقبالًا واضحًا من سكان الدولة على الوجهات الأوروبية والآسيوية خلال عيد الأضحى الأخير، وهي رحلات تتطلب ميزانية مرتفعة نسبيًا. كذلك نلاحظ أن الكثير من الأسر المسافرة تحجز رحلات تدوم من 8 إلى 10 أيام للاستمتاع بأكثر من مدينة، ما يعني امتلاكهم القدرة على تمويل إجازة مطوّلة. وعليه فإن الطبقة الميسورة أكثر تمثيلًا في هذه الظاهرة، بحكم توفر الموارد المالية والرغبة في نمط حياة عالمي.
الموظفون في قطاعات تسمح بإجازات مرنة: بجانب التركيبة العمرية والطبقية، هناك بُعد متعلق بطبيعة العمل. فالأشخاص الذين يعملون في جهات تمنح إجازات طويلة أو مرونة في إضافة أيام قبل/بعد العطلة (ككثير من موظفي الحكومة أو الشركات الكبرى) يسهل عليهم التخطيط للسفر. أيضًا من يمتلكون أعمالهم الخاصة أو يديرون شركات ربما يستطيعون اغتنام العيد للسفر دون عوائق وظيفية. وعلى النقيض، أصحاب الوظائف الحرجة أو من تقل إجازاتهم قد يضطرون للبقاء. لذا يمكن القول إن أصحاب المهن المريحة إجازيًا من الفئات الأكثر سفرًا وقت العيد.
المقيمون بعيدًا عن عائلاتهم الممتدة: تجدر الإشارة إلى أن مجتمع الإمارات يضم نسبة كبيرة من المقيمين الوافدين الذين يعتبرون الإمارات وطنهم الثاني. هؤلاء أيضًا كثيرًا ما يسافرون في الأعياد، إما لزيارة أوطانهم وأسرهم هناك أو للسياحة. وبالنسبة للأسر الإماراتية، فإن من كان منهم يعيش بالفعل بعيدًا عن ذويه (لظروف العمل أو الإقامة خارج مسقط رأسه) ربما لا يشعر بفرق كبير بين البقاء والسفر، فقرر استغلال العيد للترفيه. على سبيل المثال، عائلة إماراتية تقيم في أبوظبي وأقاربها كلهم في إمارة أخرى أو خارج البلاد أصلاً، ستكون أكثر قابلية لأن تقرر السفر في العيد طالما أنها في كل الأحوال لن تتمكن من الاجتماع بأقاربها بسهولة. هذه الحالات تعزز اتجاه السفر كونه لا يقطع صلة كانت موصولة أساسًا بسبب بعد المسافات.
بطبيعة الحال، تبقى هذه ملامح عامة وليست قواعد صارمة. فقد نجد أسرًا شابة ميسورة تفضّل البقاء للاحتفال مع الجد والجدة، با