الناقد السينمائي: مودي عبدالله يكتب: “من يحضن البحر”.. شفاعات مسترقة في محارب التيه

يستكمل المخرج المؤلف محمود محمود على سبر اغوار الروح الانسانية و مآزمها الوجودية بشخصياته المنتحبه الهستيرية و الضائعة و الصامته ، المسفوحه على مذبح الغربة المطلقة ، والتي تعجز أن تنتشل ذواتها من وحدتها الأزلية و استلاباتها الوجدانية،ومن حالة العجز للتواصل الحقيقي حتى حين اللقاء ، بين شخوصها جدران الأخفاق قائمة تحيل بين الاتصال و الأنس .
ربما أكثر شخصيات العمل جاده و الرصينه ( ليس بالضرورة على الصعيد الفني لكن كحالة انسانية ) ،ما افتتح بها العمل ، و الاقرب للخلاص بشكل ما من غيرها ، هي الشخصية التي يؤديها الممثل القدير حسين نخله الذي لا نراه في هذا العمل يفصح عن أي شيء كما في افلام المخرج السابقة سوا ما يسترق من صمته شريط الصوت المتمرد بموسيقاه و خواطره ، و هذا العمل الذي لا يمكن فصله بشكل كامل رغم اختلافه عن سابق أعماله، لانه وأن تباين في شكله و قصصه بشكل ما الا انه يتفتق من ذات البوتقة .
و الذي يجعل شخصية الممثل حسين نخله هي الاكثر رصانه رغم أن أسمال الكدر و الوَجْد التي تطوقه حد الخرس ، ربما لأنها هي الوحيدة من بين الشخصيات التي لا تلجأ إلى مغيبات و ملهيات تتملص بها من ذاتها .
يبقى في حاله من الخلوه الذاتية و ظلام دامس على وسع الافق ،تضطر الروح أن تكشف فيها عن نفسها و أن تستفرغ ترسبات الماضي المحتقنه في رحم البوح . ولا نقول ان الشخصية ملقاة في يأس مطلق لان الحزن يكتنف محياها ، لكن لوضوح غياب القدرة على البكاء في الغالب، وهو دلالة صريحه على اليأس ، و عدم قدرته على البكاء ليس اذعان لعرف الحضر الذكوري على دموع الرجل ، لانه لوحده تماما ، مرسوم في كوادر العمل ،حيث لا أحد لا عالم كي يتم يؤخذ بإعتبارهم ، ليس معه إلا ذاته في مواجهة استرجاعات الماضي .
في المشهد الذي يتلو الافتتاحيه وهو مشهد close up- مقربة لوجه الممثل حسين نخله ،وهنا يتجلى إدراك المخرج لادواته ليس عليه ان يقحم الغناء و لا الموسيقى فيها لانها معبرة و مكثفة في غير حاجة لاضافة شحنة عاطفية قد تفسد حساسية المشهد ، يدرك المخرج ليس فقط أدواته لكن أيضا بقدرات الممثلين و حدودهم و الى أي مدى تتجاوب مواهبهم بشكل أمثل مع عدسة الكاميرا ، بشكل دقيق اي موهبة تتناسب مع اللقطة الواسعه و القريبة ،يدرك على سبيل المثال موهبة الممثل حسين نخلة و مع قدراته الضخمه التي تتجاوب بشكل مثالي مستوفية لكل انواع اللقطات .
موهبته التي لا تختزل في الشحنة الدرامية التي يحتويها عمق صوته ( مع أنه لا ينكف باستغلالها)، لكن حتى تعابير وجهه تفصح ببراعه درامية جياشة جارحة بقدر صوته ، يتعامل المخرج مع أداء حسين نخلة بلقطة قريبة وتصبح اكثر قرب باضطراد حريص، يلتقط ارهف إيمائتها ببراعة تنم عن حساسية عدسته و قدرتها على اجتراح اختلاجات الروح من صمت ظاهري يتحايل على الإفصاح .
وهي اكثر اللقطات التي يجب أن تُعد بحرص و تيقظ حسي ، لأنه كما قال الناقد المجري بيلا بلاش عن الموضوع اللقطة القريبة و في مديح اهميتها و جدواها : “إن حركة التعابير الوجهية هي شكل من الغنائية التي هي، على نحو لا يضاهى، أغنى وأكثر امتلاء بالفوارق الدقيقة من الأعمال الأدبية أيًّا كان نوعها.” وأضاف: “حين تُظهر اللقطة القريبة كلّ درجة من الإحساس بتفاصيل دقيقة، فإنها تعبّر عن حساسية المخرج. “اللقطة القريبة هي شِعر السينما”.
اجد توظيف الأصوات التي يصرخ صداها في وجدان شخصية حسين نخله من الأطفال و قهقهاتهم النابضة بالبهجة اختيار آسر ، اكثر من اختيار رومانسيات الماضي من الصبا و الشباب لان ماهو اكثر ما يمكن ان يحن المرء إليه وهو ملقى في التخوم الابعد لليأس ؟ ، أقصى النقيض- الطفولة ، وهي صفحة الإنسان الاكثر نصاعة، النابضة بالوعود الاقل تشوها من عبث الحياة ، حتى أن اعتقدنا بما اعتقده هيغل، أن الإنسان لا يأتي صفحة بيضاء و إنما يسبق ذلك ملكات الفهم ، حتى بحضورها و لغياب التجربة و الماضي في الطفولة يبقى الطفل بكر عن جروح الحنين و مرارة الذكرى .
البحر كناية عن الروح أداة رمزية استخدمها محمود للكشف عن المستسر في ما وراء الصدر عن عوالم الاحلام و الامآل المكظومة و المسكوت عنها و الضائعة بعيدا بالداخل في الخرابات الجوانية للمرء، كل شخصية في العمل وظفت وصلات التلاقي بها ،بشكل لا يجعل المشاهد يدرك هل حقا تجري الحوارات بين الشخصيات في حضور فيزيائي حقيقي ام استحضارات خيالية ،كما هي المدرسة التجريبية و سرديتها السينمائية الأقرب لاسقاطات اللاوعي من اضغاث الاحلام من كونها سردية واضحة روائية ، لان الهدف و المزية من الشكل الرمزي المكثف التي تصنع بها الافلام التجريبية هي تتوازى مع مقاصد الشعرية في أنها تخلق انساق غير منطقية سرديا، لا زمانيا ولا مكانيا لكنها ترسم تحت السطح بهذا العبث الظاهري نسق حسي باطني يلتقف شكل مشاعري و روحاني كما هو فيلم “من يحضن البحر” . يستفز و يستحث الحس بقدر التفكر ، المشاعر التي تتدفق من تواترات المشاهد ، بشكل قطعات و قفزات بين كل مشهد و الاخر بشكل هو الأقرب للاحلام و الكوابيس . انت لا تعلم حقا إلى ماذا يشير كل مشهد على حدى ماذا كلا منهم يريد، كما هي احلامك حتى بعد أن تستيقض من النوم لكن ما يبقى أن هناك شعور و علائم حسيه تربط في ما بينها و تخلق بنية متسقة تعرف ماهية وجودها أو تستشعره ، يؤكد على هذه الصنيعة من الشكل التجريبي توظيف شريط الصوت الذي لا يتوازى مع الصورة كعنصر اضافي بل كحلقة وصل بين المشاهد، و ببلاغة سيميائية سينمائية يفرض بعدا آخر لشريط الصوت و يجعل من الموسيقى غنائية كانت أو خالية من الكلمات و بإعمال الصمت و الكلام، يصبح شريط الصوت دالا و مدلولا.
في أغلب الأحيان في السينما الروائية ، خاصة سينما الانماط كيسنما هوليوود التي تعول على المألوف للجمهور توظف الصمت كنوع من الاستراحه ما بين المشاهد أو في أحسن الأحوال كنوع من التمهيد ، أما في فيلم “من يحضن البحر ” محمود محمود يظفي للغياب مره اخرى بعدا فلسفيا ، بغياب شريط الصوت- (الصمت) يحيله كوسيط اثيري كاشف ينير العتمه على المكنونات المخبوءة في ثنايا القلب ، مع ولوج الفلكلور الاردني و غيره موسيقى تمتلك خصوصيات الثقافات العربية المختلفه لقطع الصمت ، يُكلل الصمت بنزوع روحاني (صمتا عرفانيا) ، يتولى به الصمت مسؤولية البوح عندما يبلغ شريط الصوت حدوده في البيان.
في مشهد لافت تقف إحدى الشخصيات و هي تنظر متأمله الجدار و عليه رسمه بحر و سفينه ،سارحة البال مبستمة ثملة بخيالاتها.. الجدران كرمز للوح التأمل و المرآة الكاشفة ليست مستحدثة ،علامة كسبت دلالتها من تكرارها في العمل، بل هي توظيف بليغ آخر يتم تناسي قيمته كثيرا في السينما ، من لم تكن له الجدران صحيفة تأمل في خلوته و رمز الجدار لا تختزله خصوصية ثقافة معينه ، هناك مقولة إسبانية شائعة تقصد نفس المعنى ” الحائط و الجدار صحيفة المكار” .
لا يبدو أن هناك الجدران مجرد دكورة و حاضن للفعل بل هي علامة و رمزية لها بعدها الإنساني الذي يتخطى شكلها الصلب الفارغ، تحضر كاستعارة مضمرة للعزلة و الاحتمالات في آن واحد وفي حضورها و اقصائها من المشهد تتصادم و تلتحم مع الغائب و الحاضر.
أنها مساحه خاوية قد يحيلها العقل عنوة صفحة بيضاء لاستعارة العزاء و وتحقيق وهمي للاحلام و للدفء و كل الرغائب و الحاجات الغير مستوفاه للحظات فقط آنية وهمية و بالغة الهشاشة و الضبابية ، تجليات وهميه لاستجابات دعوات غير مستجابة لا تزال تتبوأ مقعدها في صفحات الغيب ، هي شفاعات مسترقة تعول عليها البشرية للتحايل على واقع يتأبى التجاوب مع مطالب الفرد.
هذه المآزم الوجودية، التي تبدو ابديه ،تتشاطرها جميع الشخصيات رغم أن مجابهتها و التعامل معها مختلف لكل شخصية لكن جوهرها و منطلقها واحد احساس الضياع المطلق و الشخصيات المجردة من الأسماء ربما هي من منظور المخرج كناية عن البشرية معاضل تبدو ذاتيه هي إسقاط لمعضلة جنس بشري بأكمله ،أنها ضريبه لا مفر للتملص منها ، ضريبة على القصور الذاتي الناتج عن خذلان قديم للنفس ، النقطه التي عودنا نفسنا منها على الهروب من ذواتنا ،على التنكر لمسؤولياتنا تجاه الذات و الآخر على نسيانا ليكيفية العيش في اللحظة بكثافة على نحو انفعالي، دون استنزاف ذواتنا في استرجاعات الماضي ،و امآل إيابات موؤدة في جُب الغيب .
وفي مشهد نجد شخصية الممثل عبيد يتحدث وهو حالة من الهياج و السكر مع إحدى الشخصيات ،ذكرت إحدى الشخصيات لان العمل لم يتطرق لاسمها و هويتها كما هي بقية الشخصيات كما هي اغلب شخصيات إذا لم تكن كلها في معظم افلامه ، يبدو أن المخرج يتقصد دائما أن يتناسى و يحذف كل ما يبني شكل متكامل لهويات شخصياته و يترك لنا ما نستطيع ان ندركه من هوياتها هو بعض السمات السطحية و الاشارات لان حتى رغم أن كل الشخصيات تعاني بشكل ما في عزلاتها الخاصة، إلا أن هذا الحذف من رسم سمات كامله ربما يقصد بها أن لا نعتقد أن العوالم الذاتية هي تقف حدودها عند الفرد، لان الذاتي جدا هو عام جدا الكل يتشارط الازمات الوجودية ولو كنا معزولين في صراعاتنا الخاصة ،لكن الاثير الكبير في الصورة الأبعد عن الفرد بحد ذاته و مجموعة بحد ذاتها تتقاطع سمات الفقد و الانتظار و الوله لاستيفاء حاجات الروح الغائبة ،لأن البشرية بكافة مجتمعاتها رغم امتلاكهم لملكات تعدد اساليب التواصل الا انها تفشل في أن تفصح عن ما يضنيها باستمرار يعتذر على الفرد نفسه تسويغه، يأتي العمل بتوضيف شريط الصوت و ينقل الهامش للمتن الذي هو العامل الأهم فيه لا يكتفي ولا يرضى بأن يكون شكل جماعي يفعم المشاهد لتكثيف المشاعر لكنه يبعد عن ذلك بل يتمرد على الصورة ،يقطع عن شخصياتها حديثها و يلقي عليها بشكل فج في قلب المشهد بشكل صادم و مستفز أصوات رصاص تاره في مشهد رومانسي وأصوات غناء كله كنوع من التعرية لكل ما يقال لكل التراهات العامه التي يغرق العامه فيها ليس فقط على صعيد الكلام بل أيضا على الفعل ، و كأن شخصية الممثل عبيد و هي تسكر و تسخر و تضحك، رمز عن الإنسان المعاصر أو ربما عن حالة الإنسان الأزلية في التعامل مع معضلة وجوده في أنه دائما يتجنب لحضات المكاشفة المهيبة التي تنتظره في اركان الخلوات ،متأهبة متوعدة له بأن تنتشله من دائرة الراحه لتقلب وجوديته رأس على عقب.
“ما الحاضر إلا اجتماع الماضي و المستقبل ، فلا وجود لحضور خالص و لا غياب خالص ، بل الإنسان يتأرجح بين الحضور و الغياب ” يزيد السنيد
تنصهر الحدود الزمانية و المكانية للشخصيات و لا تجد من يرسم شكل كامل لهوياتها الذاتية ليستوعب الناظر فدرانية هوياتها ، يسعتيض عن توريط المشاهد في تعاطف ممهد لرسم الشخصيات بالقائها في مجهولية مآزمها الوجودية ، نتحرى مواقفها الوجودية من ارهف تهمعاتها الى صرخاتها وضحاتكهم المدوية الهستيرية مدعية السعادة منازعة خوائها، وابتساماتها السارحه العجيبه.
ربما يتورع المخرج عن ذكر الخلفيات الثقافية و التطرق لكل سماتها الخاصة التي تبلور هويتها الفردية لان كل ما هو يشير عن خصوصية الهوية للافراد هي عرضية و ملفقة ولا حاجة لها ، و هذا الشئ نجده في جميع اعماله و بشكل متطرف في عبد الودود، عندما وثبت شخصياته امام بعضها في صورة متسرمنه تكاد حتى لا تكون بشرية في زمكان ضائع مجهول الهوية ، لان البشرية من مختلف مشارب حياتها و اختلاف ثقافاتها و ازمنتها و تموضعاتها الاجتماعية ، تتشاطر كلها ذات الهم الوجودي .
يجب الأخذ بسؤال زياد السنيد عن اذا كان المونتاج الطبيعي هو الذي يحاكي قوانين العقل فما هو المونتاج التأويلي ؟ ، يقول “عليه أن يكون مونتاجا تأويليا و تفكيكيا كأن يبعثر الوحدات الدرامية وحدة الزمن و المكان و الحدث ، أو يختلط الواقع مع الحلم كما نجد مع السوريالية ” . لا تنتمي سينما محمود محمود أو بالاخص فيلم “من يحضن البحر ” إلى السينما السوريالية لكنها تشاطرها ذات التشظي السردي ، شكل فني ضروري لا يأتي من باب التقعير السردي بل لضرورة فنية سينمائية تندر تبنيها في السينما العربية ، تعتق ذاتها من القيود القصصية و الروائية لتكون شكل سينمائيا خالصا، يعول على مزية السينما الاهم وهي (التمظهر البصري) لا السرد الروائي والقصصي ، ولا الطفل الحديث وليد المسرح .
غياب الخلفية الزمانية لكل الشخصيات في فيلم ” من يحضن البحر” يُجتلب ويصاغ في قالب سردي برغسوني ، لا يُعنى بالزمن الواقعي للساعات بل بالحدس للتدفق الحيوي الداخلي الذي يعيشه الإنسان .. لان و ان توالت الايام بنفس عدد الساعات نفسها كل يوم ، هي لن تكون نفسها في الطول و القصر و القيمة لدى التجربة الإنسانية و هذا بالضبط هو جوهر السرد السينمائي والتجربة التلقي السينمائية ، حيث الزمن فيه ليس تأريخ لخطوط عريضة لاحداث تاريخية ، بل تدفق حسي انساني ، و محمود محمود يجسد المفهوم هنا بشكله النيء ، تتخمض رؤيته من منطلق فينومينولوجي ، لا يجعل الزمن و سيلة للتعامل مع الإنسان كظاهرة خارجية ، لكنه وليد وعيه كما يعيشه هو، و ليس كترس في صيرورة التاريخ.
. و ربما غياب السياق الزمني لكل الشخصيات ، لان معاضلها ليست تجاوبات لتلقبات تاريخية و اجتماعية منفصله عنها و مع ذلك مع آنية المعضلة الحية الا ان الشخصيات تفشل في عقد السلام مع اللحظة الراهنة ، غير متحرره من اغلاله و لا متقبلة لقيمة آنيته الزوالة ، وهذا الصراع الوجودي الملازم دائما لحالة الانسان بين ما هو حاضر و غائب
يؤكد على فكرة زيد السنيد عن عجز الإنسان في الانغمار في الحاضر و اللحظة : ” إنسان الحاضر لا يقبض على حاضريته لذلك هو دوما يتنازع الحضور و الغياب” ، واعتقد وصف “حاضر” لا يقتصر على حاضرنا أو حقبة زمنية معاصرة، بل علاقة الإنسان مع حاضره مشكلة لا تختزل في تجاوبات الانسان مع أحداث تاريخية معينه لكن هي أقرب لان تكون حالة الاستلاب و الاغتراب الوجودية الازلية لدى الإنسان ، من لديه دليل مؤرخ عن أول حالة للاغتراب!؟ ألم يذق اول الخلق آدم مر الاغتراب عندما القي اول مره خارج الجنة ، يبدو أن حالة الإنسان الاكثر قدما قد قُدت من هذا النزاع .
إنغمار بريجمان : ( أمقت الاسلوب الفكري ، العقلاني ، في معالجة أمور هي حسّية جدا و ذاتية جدا )
لا يجب الإستناد و التعويل بشكل متطرف شللي على اجتثاث تأويل صائب موحد لمعنى و رمزية و دلالة لمشهد معين في الافلام خاصة هذا النوع من الأفلام التي ترمي بالسرد القصصي الروائي الخطي عرض الحائط ،لا اعلم عن إذا كانت تطرقاتي لما أعتقد أنه اسقاطات نفسية او دلالات سينمائية هي صائبة او جانحه بشكل يشذ عن جادة العمل ، الا ان الأكيد ان بنية الفيلم تحتمل و تسمح بتعدد مختلف التآويل التي ربما لا تتشابه او تتقاطع في تفسيراتها ، لان بنيتها صعب لاحتواء رؤى شبه موحدة، مانعة و جامعة ، لان عملية التلقي هي ذاتية في المقام الأول مهما كان العمل واضح و صريح في مقاصده فما بالك لو كان ذو بنية و سردية هي الاقرب لتداعيات الأحلام ، ففي جوف سرديته يفتح المجال لتجاوزه و تجاوز صانعه، وهو ترسيخ لمفهوم التعريف التجاوزي .
و كما ذكر من احد النقاد ان : “إنّ عمليّة التلقّي “لا تحدث بعيداً عن الذات، والوسط، والظرف، ونوع التوقّع (أفق الانتظار). وهي عناصر يتقاطع فيها السيكولوجي، والاجتماعي، والفني”. كما ان المخرج حرر عمله اطر الروائية ليكون عمله اكثر سينمائية و ويستغل مرونتها و مزيتها ليرتقي بها لان تكون فن حقيقا يتواءم مع تعريف يزيد السنيد للفن بوصفه: ” تعبير من خلال المحاكاة و اللعب لغاية إشباع شيء ما” .
أعتقد أن سينما محمود محمود بشكل عام يجب أن تقدر ليس فقط لابداعها في إعمال (الاغتراب الجمالي) ،بتحويل تبديات الواقع الظاهراتية المألوفة الى ماهو غير مألوف لفتح زاوية جديدة ورؤية اكثر طزاجة للمتلقي ، بل لتحرير السينما اليوم التي صارت مرتبطة مع غايات رأسمالية ، فأضحت مجرد وسيلة نحو غاية غير سامية ، ضحية لأطر استهلاكية ، نتاج صناعي كاسد مفرغ من الابعاد الإنساني .