كتب :أحمد مقلد
الفن والوظيفة معاني حياتية يجتمع من خلالهما مفهوم الجمالية والنفعية ولكون العمل الفني أي كان نوعه أو مجال صياغته سيظل محكوم بعناصر وأسس التصميم، وحيث أن الأصل في تقييم أي عمل فني يعود لمدى الإتقان في التنفيذ حيث يتم توظيف التكنولوجيا مع المهارات الادائية والمعارف التراكمية والقواعد الحاكمة بهدف صياغة وتصميم مفردات العمل الفني في صياغات متجددة ومبتكرة، وجمع تلك العناصر داخل الشكل النهائي للتصميم، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار تحقيق الشكل النهائي للمنتج للوظيفة المطلوبة منه.
وفي إطار السعي لتبسيط الصورة للجمهور المحب للفنون التشكيلية وجب التنويه عن بعض الحقائق وفي مقدمة تلك الحقائق أن الشكل الجمالي للمنتج والوظيفة الادائية، هما ضوابط الحكم على جودة تنفيذ العمل الفني، مع العلم أن الشكل الجمالي إذا تخلي عن الوظيفة فقد زال سبب إنتاجه وحتمية وجوده ولا يوجد فن للفن فقط كما ذكرت النظرية البرناسية، وهي نظرية تقوم علي فكرة أن الفنّ مُجرّد من أي أمور فكرية، أو فلسفية، أو دينية، وكان الهدف الرئيسي من الفن في هذه النظرية هو الجمال، بما يضمن تخلي الفن عن النفعية وبدون أي التزام قيمي أو أخلاقي، وهذا الأمر يتعارض مع واقع الحياة المعاصر لذا يجب أن تكون هناك لغة حوار بين العمل الفني والمتلقي بما يضمن التحفيز للاقتناء والتوظيف العملي للإفادة من أي عمل فني.
كما يجب مراعاة تحقيق الغرض الوظيفي من العمل الفني بجانب مراعاة الأسس الجمالية والتصميمية حتى يحظى المنتج بالقبول لأن العين هي نافذة القلب في قبول أي عمل فني، مع العلم أن عناصر العمل الفني هي النقطة والخط والمساحة والكتلة والفراغ والظل والنور.. إلخ، بينما المقصود بأسس التصميم هي قواعد صياغة المفردات والوحدات داخل العمل الفني مع مراعاة التكبير والتصغير والتكرار واللون.. إلخ.
ومما سبق وجب التوضيح أن أي عمل فني لابد من أن يجمع بين الفن والوظيفة مثال (براد الشاي) قد يتم تنفيذه بشكل جميل جداً لكن في حال تجربة استخدامه وكانت منافذ خروج المياه أو الغطاء غير متاح فيهما الوظيفة فهل يكون العمل الفني ورغم جماليته فاقد للوظيفة، بما يتعارض مع الهدف من إنتاجه ولا يحقق الجمع بين الوظيفية والجمالية.
وبالمثل فإن أي عمل فني داخل إطار مثل صورة لمنظر طبيعي أو طفل أو غير ذلك إذا لم تراعي مكان وضع الصورة أو مراعاة طبيعة الحدث وربما العادات والتقاليد والقيم الدينية والثقافة السائدة لموضوع العمل الفني ومفرداته ومكان وجهة عرض العمل الفني، وإذا لم يتم مراعاة المساحة المخصصة للعرض فقد يصغر العمل بشكل فج أو يزيد فلا يكون مقبول بصرياً للعرض من الناحية الوظيفية، أما إذا غلبت الحرفة والصنعة على الفنان فإنه يجتهد ليطور في النسق الشكلي والتعبير الفني بما يخدم طبيعة الوظيفة المرجوة من العمل الفني، ولكون الله قد خلق الكون بنسق جمالي ووظفه لخدمة البشر لذا أمرنا بعمارة الكون والتأمل فيما أبدع الله وفق مشيئته وبما يلبى حاجة البشر.
والفن مزيج تراكمي من القيم الفنية والموروثات التعبيرية وما يبقى ويزيد قيمته هو العمل الذي جمع الأركان والصفات والخصائص الشكلية والبنائية والوظيفية طبقا للحاجة المرجوة من إنجازه العمل الفني.
ولا يسعني الآن سوي التأكيد على قيمة وحقيقة وجود قيم أدبية وفنية لمرحلة التصميم لما تتميز بها تلك المرحلة من خصوصية تستجلب اليقين أن رسالة العمل تأتي من لحظة الإلهام وومضة الإبداع التي يقدمها ذلك المصمم الراغب في قول رسالته بأن العمل النهائي لأي عمل يسبقه أعداد جيد ومتأني.
ومن القصص الطريفة حول تصميم الأعمال الفنية كانت لوحة Garden of Earthly Delights، واحدة من أكثر اللوحات تعقيدًا وغموضًا وغرابة، وذلك لكونها لوحة ثلاثية تتضمن ثلاث لوحات منفصلة، وكان قد قام برسمها الفنان الهولندي “هيرونيموس بوس” تقريباً خلال الفترة ما بين 1490 و1510.
وكانت اللوحة اليسرى تُصور مشهد “آدم وحواء داخل الجنة”، بينما تعرض اللوحة التي في المنتصف “بانوراما مليئة بشخصيات بشرية وحيوانية تمارس أنشطة حياتية مختلفة”، بينما جاءت اللوحة التي موقعها على الجانب الأيمن لتُظهر “عالماً مظلماً ومخيفاً”. حيث رسم الفنان السماء والأرض والجحيم بتفاصيل غاية في الدقة مما يظهر فظاعته وربما كان ذلك تحذير ضد كل إغراءات الحياة.
وبعد 600 عام، من ظهور اللوحة، ومن خلال دراسة الموسيقى داخل هذه اللوحة الثلاثية، حيث تم تصوير العديد من الشخصيات وهي تقوم بالعزف على الآلات الموسيقية وبطرق غير تقليدية (مثل إدراج المزامير بين الأرداف).
وهنا قام العلماء المتخصصين بعالم الموسيقى في أوكسفورد بإعادة إنتاج هذه النماذج من الآلات وحاولوا العزف عليها بهدف اكتشاف مدي فظاعتها، ولكن لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تم الاكتشاف مؤخرًا لسر خطير داخل اللوحة وهو أن شخصية في لوحة الجحيم مكتوبٌ على مؤخرته نوته موسيقية وكائن غريب يحاول قراءتها، ونتيجة لذلك الأمر قام البعض من المتخصصين بنقل النوتة الموسيقية وتسجيل موسيقاها المرعبة.
وفي نهاية المقال يتجدد السؤال هل الفن لغة أم وسيلة لإيصال المعني وربما في نقل الخبرات والثقافات المتبادلة ولكني أعتقد أن الفن عموماً والفن التشكيلي بشكل أخص هو لغة عالمية ويتحدث بها الجميع وفق قواعد معرفية وعلوم إبداعية وثقافات مجتمعية متوارثة مما يثري أي عمل فني ويحقق الرسالة المراد نقلها وتوجيهها من الفنان لجمهوره ومن جموع المشاهدين كلاً وفق ثقافته وعلي قدر خبراته في تحليل المفردات وفهم أسباب ومراحل إنتاج العمل الفني ولهذا تتعدد مجالات الفنون التشكيلية ويجمعها الوظيفية والجمالية عند التصميم.